في سنة 187هـ نقض صاحب الروم نقفور الصلح الذي كان بين المسلمين وبين الإمبراطورة أريني، بعد أن خلعها الروم وملكوه.
فكتب إلى هارون الرشيد: من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب، أما بعد؛ فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مكان البيدق[1]ز
فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقًا بحمل أمثالها إليها.
لكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يمكن لأحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه خوفًا من زيادة قول أو فعل يكون منهم.
واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام.
ثم شخص من يومه وسار حتى أناخ بباب مدينة هرقلة، ففتح وغنم، وخرب وحرّق، فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك. فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد وخان الميثاق.
وكان البرد شديدًا، فيئس نقفور من رجعة الرشيد إليه، وجاء الخبر بارتداده عمَّا أخذ عليه، فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقًا عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل عليه بشاعر يُسمى أبا محمد بن عبد الله بن يوسف، فقال له قصيدة مطلعها:
نقض الذي أعطيته نقفـور *** وعليه دائرة البـوار تـدور
فلما فرغ من إنشاده قال الرشيد: أوَ قد فعل نقفور ذلك؟! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكرَّ راجعًا في أشد محنة وأغلظ كلفة حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، وأذل نقفور وجنده.
وبعد فتح هرقلة كتب نقفور مع بطريقَيْنِ من عظماء بطارقته في جارية من سبي هرقلة كتابًا، نسخته: لعبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين من نقفور ملك الرومز
سلام عليكم، أما بعد أيها الملك، إن لي حاجة لا تضرك في دينك ولا دنياك، هينة يسيرة، أن تهب لابني جارية من بنات أهل هرقلة، كنت قد خطبتها على ابني، فإن رأيت أن تسعفني بحاجتي فعلت، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
واستهداه أيضًا طبيبًا وسرادقًا من سرادقاته، فأمر الرشيد بطلب الجارية وهي ابنة بطريق هرقلة فسُلِّمت وسرادق كان الرشيد نازلًا فيه، مع آنية ومتاع وعطور وتمور، إلى رسول نقفور.
وفي هذه السنة اشترط الرشيد على نقفور ألاَّ يعمر هرقلة، وعلى أن يحمل نقفور ثلاث مائة ألف دينار.
وفي غزوة الرشيد هذه لهرقلة اتخذ قلنسوة كتب عليها: غازٍ حاج.
هذه صورة من صور عز الأمة الإسلامية يوم كانت مرهوبة الجناب، قوية الأركان، واليوم تنتقص الأمة من أطرافها، وتهزأ بها كل الأمم؛ لأنها هانت على الله فأهانها على أيدي الأراذل وشرار الخلق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الرخ والبيدق من أدوات الشطرنج، ومعروف أن الرخ أقوى حركة وقيمة من البيدق على رقعة الشطرنج.
الكاتب: د. محمد موسى الشريف
المصدر: موقع التاريخ